Search for:
  • Home/
  • Culture/
  • مداخلة الدكتور ناصر زيدان في ندوة توقيع كتاب “كمال جنبلاط تجليات هندية”للباحث العراقي الدكتور محمد سعيد الطريحي

مداخلة الدكتور ناصر زيدان في ندوة توقيع كتاب “كمال جنبلاط تجليات هندية”للباحث العراقي الدكتور محمد سعيد الطريحي

بتاريخ ٢٢/٦/٤٢٠٢ أقيم في المكتبة الوطنية- بعقلين وبالتعاون مع أكاديمية الكوفة- هولندا ندوة حول كتاب “الحكيم الموحّد كمال جنبلاط في تجلياته الهندية” للباحث الأستاذ محمد سعيد الطريحي، تحدّث فيها الدكتور فؤاد جان ناصيف، والدكتور ناصر زيدان، و أدارتها المحامية غادة جنبلاط.

حضر الندوة النائب مروان حمادة ممثلاً راعي الندوة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب تيمور جنبلاط، عضو المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز الأستاذ أسامة ذبيان ممثلاً سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الدكتور سامي أبي المنى، الشيخ يوسف الأشقر ممثلاً مؤسسة العرفان التوحيدية، فعاليات حزبية، بلدية عسكرية وتربوية.


وقد جاء في مداخلة الدكتور زيدان ما يلي:

أعادنا العلامة والباحث والناشر محمد سعيد الطريحي الى زمنِ المحبة كطاقة كونية ترتكز عليها الحياة. الى زمن القوة المعنوية الكامنةُ فينا والسجينةُ داخلُنا، وجعلنا نشعر من جديد بأننا جميعاً تحت خيمة الباري جلَّ وعلَّ، حيث لا فلكٍ دوار ولا نَفَسٍ شهاقٍ زفار إلا بقدرة العليِّ الجبار.
كتاب “الحكيم الموحد كمال جنبلاط في تجلياته الهندية” الصادر عن أكاديمية الكوفة في هولندا؛ ومضةُ نورٍ وإشعاع في زمنٍ غَلَبت عليه العتمةُ الفكرية، وبدا سراجُ العقلِ مع هذا الزمان محجوبٌ في بعض إشعاعاته؛ يتيماً يشعرُ بغربةٍ مُوحشة، لأنه أدرك أننا في عصرِ المادة، او في أحد الأدوار ال ٢٧ حيث تغلَّب فيه الكثيفُ على اللطيف، واختلَّ التوازن المبني على تكامل كلٍ منهما، حيث لا معنى للأول من دون الثاني. واللطيفُ، هو السابق، وهو بالواقع؛ القوة الخارقة التي تحيطُ بكلِ شيء، ونحن لم ندرك كل مكامن تأثيرها بعد، لكن هذه القوة الخارقة لا تأمر بالسوء، فإنما السوء او الشر من فعلة البشر الذين أظلّوا الطريق، وانحرفوا الى أن سقطنا جميعاً في هوة المُنكر السحيقة، بعضنا استسلم فيها والبعض الآخر ما زال يقاوم بإيمانه ويرفض الاستسلام.
نشكرك أيها الطريحيُّ العاقل، يا ابن العراق الغالي، أرضُ التاريخ ومرقدُ الأنبياء والأئمة وموطنُ النُجباء، ونعتذر عن عدم تمكن راعي هذا اللقاء الأستاذ تيمور بن وليد بن كمال جنبلاط من الحضور بسبب السفر، وهو كلف أحد أعزّ الناس واكثرهم معرفةً واخلاصاً معالي النائب الاستاذ مروان حمادة لينوب عنه، كما نشكرك باسم محبي المُعلم الذين عايشوه وما زالوا على قيد الحياة، كما الذين تتلمذوا على هُدى خطاه وافكارهِ ولم يبدِّلوا تبديلا. لقد كُتب الكثير عن كمال جنبلاط، وطبعت كتاباته الغنية والواسعة الانتشار، ولكن قراءتنا لهذا المولود الكوفيُ الجديد، جعلتنا نشعرُ بأننا لم ندرك حتى الآن كل جوانب فرادة كمال جنبلاط وخصوصياته الفكرية والإنسانية والروحانية، وربما نسينا او تناسينا او لم يخطر ببالنا؛ بأننا أمام نهرٍ مُتدفق من الأفكار والقيم؛ لم يتلاشى، ولم يشحّ، ولم ينضُب مع مرور الزمن، بل أغنته السنون، ولم تنل منه مكاربُ العصرِ، بل أزهته، لأنه بدا كأنه مجراً يحملُ صداً لصوتِ العقلٍ والصدق والصفاء وسط بريةٍ قاحلة تعبثُ فيها مخالبُ الأشرار.
يتحدث كمال جنبلاط في الصفحات ٤٨ و ٧٨ و ٨٩ من الكتاب عن رفعةِ الحكيم وقيمةِ الحِكمة وعن نصاعةِ النور الروحاني، ويقول: عندما يكون لديَّ فكرةٌ أبصرُ ذاتي، والحكيمُ مقامهُ او مستواهُ محضُ وعي. ويتابع، بالشمس الداخلية التي لا يراها أحد، أرى كل الورود، وبها أسمعُ وأشعرُ وألمسُ وأفكر، هي تنير عقلي، وهي تكشفُ لي الأشياء دون أن تنكشف أمام أحد. وفي مخاطبته لمعلمه شري أتماناندا يقول في الصفحة ٠٠١: “عندما أسمعك، وعندما تظهرُ لي عبر الموسيقى، أصبحُ في حالة ارتقاء وأعتلي درجات عقلي” .
آهٍ… كما هي قوة الحقِ كبيرة، فالله حق، وفيما يتعدى الحرف والكلمات تتموضعُ القيم وترابطُ مدافع النرفانا التي تقذف بصواريخها اللطيفة الخارقة؛ المحبةَ والسكون الى حيث لا تصل حممُ الآخرين القاتلة، أنها لعبةُ قوة الصمت كما يقول عقال الموحدين الدروز، وقوةُ السماحة او التسامح كما يصفها المسلمون الصوفيون، وهي كالمحبة التي تتغلَّب على كل شرّ كما يراها السيد المسيح. ويردد جنبلاط: ربي إني ما عبدتَك لأجلِ جنتِك، ولا خوفاً من نارِك، بل لأنك الحق والمحبة وشعاعُ النور الذي ينبعثُ فينا آتياً من مكانٍ لا ندركُ رفعتهُ. 
وما الدنيا الا حدودٍ خمس (العقلُ والنفسُ والكلمةُ والسابقُ والتالي) وحواسٌ خمس (السمعُ والبصرُ واللمسُ والذوقُ والشمّ) ولولاها لبقيَ كل شيءٍ مجهول، فالعالمُ من صنع الحواس كما يقول جنبلاط (صفحة ٢٥) فقد جاء في كتب حكمة الموحدين: آه يا نفس لو تعلمين ما هو هذا الجرم الذي تعيشين عليه بثقله ورسوبه والسبحُ الدائرُ ما دونهِ. ولعلىَّ توصيف الباحث الطريحي في الصفحة ٤١، يعبر أبلغ تعبير عن حقيقة النزعة التوحيدية لدى كمال جنبلاط، بحيث يراها بُنيت على تجاربٍ فكريةٍ وروحانيةٍ سابقة، ومن ضمنها الفلسفة الهندية ونتاجها اليوغي، والأسس الاسلامية المتجردة، والنزعات المسيحية المتحررة التي أظهرها الراهب اليسوعي الفرنسي تيلار دي شردان بأفضل مشهد.
الكتابُ يُلقي الضوء على فرادة كمال جنبلاط، فهو مثالي وعاش الواقعية بتفاصيلها، لا سيما من خلال دورهِ القيادي المُتقدم، وفي متابعتهِ لتفاصيل الحياة السياسية والحزبية وتشعباتها المحليةِ والعربيةِ والدولية، حتى أن فكرة تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي في العام ٩٤٩١؛ جاءت مُنسجمةً مع الرؤى التي آمن بها جنبلاط، وقد اعتبر ميثاق الحزب أن الإنسان هو غاية أي مؤسسة وعمل بشريين، فلا يجوز استخدام هذا الإنسان كوسيلةٍ لتحقيقِ ربحيةٍ مُتفلِّته كما يحصل في بعض دول الغرب الرأسمالي، ولا ظلمهِ وقهرهِ من أجلِ السلطة او لتنفيذ مشاريع توسُّعية او لزيادة النفوذ كما يحصل مع شعب فلسطين المُعذب، ولا يجوز تقييد حرياته كما كان يجري في بعض البلدان التي طبقت الشيوعية على غير مقاصدها، كما في بعض الدول العربية التي جنحَت نحو الاستبداد وحوَّلت واحات الخير والأصالة الى سجنٍ كبير، وهو دعا الى تحقيق اشتراكية أكثر إنسانية تنسجم مع الآدمية البشرية، والعمل على تحقيق هذا الهدفُ برأيهِ يسمو على أهمية أي عمل آخر لأنه يخدم الإنسان.
عندما عرض كمال جنبلاط فكرة تخليه عن السياسة على مُعلمه الحكيم شيري اشنكارا، رفض اشنكارا هذا الخيار، وتمنىّ عليه الاستمرار بالقيام بدوره الوطني والأممي، لأنه بذلك يعطي نموذجاً على أنسنة السياسة، ويغنيها بأبعادٍ فكريةٍ وروحية، باعتبارها أشرف المهن لأنها تتعلق بقيادة الناس وبالدفاع عن مصالحهم وليس استغلالهم ودفعهم نحو البؤس والعوَز. ويمكن ملاحظة اعتبار جنبلاط للمشاركة في أعمال ترميم منازل بلدة باتر الشوفية التي تضررت في زلزال العام ٦٥٩١ على سبيل المثال؛ كجزء من حراك له ارتدادات كونية، او أنه مرتبط بالطاقة الخارقة، التي تفرض الوقائع كما تفرض طريقة التعامل معها في آن.
 وتذكر الباحثة في الفلسفة الهندية السيدة نهاد أبو عياش التي كانت في الهند في ٦١ آذار ٧٧٩١ (ص ٣٣)؛ أن المعلم شيري اشنكارا ألغى برنامجه الديني الحافل في ذلك اليوم، وطلب إضاءة المشاعل عندما علِم باغتيال كمال جنبلاط، وهو ما لم يحصل لأي سياسي سابقاً، إلا عند استشهاد المهاتما غاندي عام ٨٤٩١ وإبان اعلان وفاة الزعيم التاريخي جواهر لآل نهرو عام ٤٦٩١.
ويمكن الإشارة في هذا السياق أن توارد أفكار كان يحصل بين جنبلاط واشنكارا، أحياناً من دون أن يلتقيا او يتحدثا (كما ذكرت أبو عياش) وجنبلاط كان يؤيد مقاربة اشنكارا في نقده للعدمية البوذية (على ذمة ما جاء حرفياً في الكتاب) وهو ميالٌ للهندوسية التي تتشابه مع التوحيد الهُرمسي الذي يتباه الموحدون الدروز.
ويعيدنا كتاب الباحث الطريحي الى قوة معراج التوحيد، وفي أن الطاقة الكونية هي التي تقف خلف محركات الوقائع، ونحن لم نُدرك بعد كل زوايا هذه الطاقة، بينما يعتبرها جنبلاط أنها الله بذاته، والله محبة كما قال البيرت آنشتاين. وفي أن الخير الوحيد في هذا العالم هو المعرفة، والشر الوحيد في هذا العالم هو الجهل، ويتقارب هنا مع سقراط الحكيم، ويقول: تكلَّم كي أراك، فصوتك يعبر عن وجودك.
وفي نشيد النور الذي أهداه المعلم الى “صديقة حياتي مي” كما وصف زوجته الراحلة الأميرة مي التي رافقته في رحلة العام ٣٥٩١ الى الهند” وفق ما جاء في الكتاب صفحة ١٣١؛ فيفصِح جنبلاط عن ايمانه بالقوة الربانية التي تدور فوق رؤوس المؤمنين، ويقول: هبط عليَّ النشيدُ كما يهبطُ الحُب على فتاتِ القلب، وكما يهبطُ الندى على أزهارِ الأهليلج (او اللوتس)
قد يكون أبلغ ما جاء في الكتاب، هو ما ذُكر في الصفحة ٥٦: حيث يقول الناشر: “أن الكتاب وضع من أجل الصادقين والمريدين الذين لم يكتفوا بالمعرفة النظرية؛ فأرادوا متابعة طريق التحقُّق” والتحقُّق هو اقتفاء الأثر وراء الدلائل للوصول الى اليقين الدامغ. والخورزميات الإنسانية لا تقلُّ شأناً عن خورزميات الخلايا التي أوصلتنا الى شيءٍ من الإعجاز العلمي، فجزؤها ليس أقلَ شأناً من جُلُها، وأنين النحلة الرقيق ذاته؛ جزءٌ من حراكِ الكونِ الكبيرِ برمتهِ كما يقول كمال جنبلاط.
لو لم يكُن هناك تجليات جنبلاطية؛ لكان عالمُ الفكرِ بحاجةٍ الى تجلياتٍ جنبلاطية.
شكراً للعلامة الطريحي… شكراً للدكتور فؤاد ناصيف… شكراً للمحامية السيدة غادة جنبلاط على إدارة الندوة، وشكراً للمكتبة الوطنية على الجهود التي بذلت لإنجاح هذا اللقاء الذي أعادنا الى زمن الصفاء والتجلي، في وقتٍ أنهكتنا مشاهد القتل والتنكيل التي ترتكب بحق الفلسطينيين والجنوبيين، وأرهقتنا إخفاقات غالبية الساسة في لبنان والذين أعادونا سنيين الى الوراء بينما كنا ننتظر ان نسير الى الأمام، او نحو الإنعتاق.
شكراً لكل الحاضرات والحاضرين. أكتفي بما قلت رغم أن هناك الكثير مما يمكن أن يُقال بعد… كي لا ينطبق عليَّ توصيف: أطال فأملّ، وارجوا أن لا أكون كمن اختصر فأخلّ… والسلام.